*صالون الطيب صالح*
- Auth admin
- 08 Nov, 2024
- 55
محجوب قبل خدها وهو يغالب الدموع فتغلبه. وانحنيتُ عليها وقبلت جبهتها، فتشبثت بي وطوقتني بذراعيها، فأحسست بها مثل سرٍ عزيزْ، مثل شيءٍ عسيرٍ مستحيلْ. ذلك العطر. ذلك الشباب. ذلك الحلم. دارت عجلة الزمان القهقرَى، حتى توقفت عند ليلة صيفٍ قمراءْ، ليست من ليالي هذا الزمان ولا هذه الأرض. وسمعتُ حس بكائي كأن أحداً غيري يبكي الدموع التي ظلت حبيسةً كل تلك الأعوام. هذه حصتي من كل شيء. هذا نصيبي وإرثي. مات عنها وتركها لي لتموت على صدري. لعلني لهذا عُدت.
كانت مثل طائر. رفعها محجوب من نعشها فشهق ضوء المصابيح على حافة القبر، وسمعت هبوب أمشير تناديني بلسان مريم "لا شيء .. لا أحد." خطا بها نحو القبر، فاعترضت طريقه ومددت يديَ. نظر إلي برهةً، ورأيت عيناه ترقّان وتغرورقان، فتركها لي. كانت خفيفة مثل فرخ طائر وأنا أسير بها في طريقٍ طويلٍ يمتد من بلدٍ إلى بلدْ ومن سهلٍ إلى جبلْ. لم يكن حلماً. أبداً. كان مريم نائمةً على كتفي. سرتُ بها على ضفة نهرٍ إلى وقت الضحى، فأيقظها لفح الشمس على وجهها. انفلتت مني وقفزَت في الماء. كانت عارية. أشحتُ عنها، ولكنني لم أطق صبرا فأدرتُ لها وجهي. نظرتُ، فإذا هي في بركةٍ من الضوء، وكأن أشعة الشمس هجرت كل شيٍ وتعلقت بجسدها. كانت تغطس وتقلع، وتختفي هنا وتظهر هناك، وتضحك لي من جهة اليمين، ثم إذا هي تناديني من جهة اليسار. نعم. نعم. نعم. أريد أن أغرق في نبع ذلك الضوء الذي ليس من أضواء هذا الزمان ولا هذه الأرض. لكنني ترددتُ، ليس أكثر مما يطرف جفن العين. في تلك اللحظة، عاد الشعاع إلى منبعه، وذهب الطيف، لا أعلم إلى أين. ناديتُ بأعلى صوتي "يا مريوم. يا مريوم." فعاد الصدى مجسماً بألسنةٍ شتىَ "يا مريود. يا مريود." ضربتُ دون هديٍ في صحراء عقبة تُويوي ريحها وتتهايل رمالها، حتى بلغ مني اليأس وأخذ مني الجهد. ثم إذا شجرة طلْحٍ يلمع نوّارُها. تهالكتُ عندها. فجأةً أحسستُ بمريم. بُعيد العشاء أو قُبيل الفجر لا أعلم. لكنني أذكر ظلاماً رهيفاً وضوءاً ينسكب على وجهي من عينيها، شربتُ منه حتى بلغ مني الظمأُ غايته
هل لديك تعليق؟
لن نقوم بمشاركة عنوان بريدك الالكتروني، من اجل التعليق يجب عليك ملئ الحقول التي امامها *
بحث
الاصناف
معرض الصور
الاشارات
مواقع التواصل
الاخبار المشابهة
الطيب صالح : -
- Auth admin
- 16 Nov, 2024
الطيب عبدالماجد يكتب عن هاشم صديق
- Auth admin
- 10 Nov, 2024